الأخبار
المسيح الطبيب: قراءة آبائية ومعاصرة للشفاء

14 مارس 2025
يأتي كتاب المسيح الطبيب لمارك متري في سياق التقليد اللاهوتي العظيم الذي يعتبر الخلاص عملية استعادة للإنسان الجريح. نُشر هذا الكتاب عن دار Domuni-Press، ويسلط الضوء على فكر غريغوريوس النيصي ومقاربته الطبية للتألّه. ويتميّز الكتاب بمقدمة بقلم البروفسورة ماري-آن فاننييه، المتخصصة في اللاهوت الآبائي والوسيط، والتي تسلّط الضوء على راهنية هذا الفكر وعمقه. يقدم هذا العمل قراءة متجددة لموضوع أساسي في المسيحية الأولى: المسيح كطبيب للنفس والجسد. وهذه الرؤية للخلاص ليست مجرد استعارة، بل هي متجذرة في تقليد لاهوتي وروحي يمتد عبر العصور.
في الأناجيل، يُقدَّم المسيح على أنه الشافي من الأمراض الجسدية والروحية، ما يوضح أن الخلاص لا يقتصر فقط على مغفرة الخطايا، بل يشمل أيضًا استعادة الإنسان بالكامل. يظهر هذا بوضوح في إنجيل مرقس حين يقول يسوع إنه لم يأتِ للأصحّاء، بل للمرضى. وقد تركت هذه الصورة للمسيح الطبيب أثرًا عميقًا في التقليد المسيحي، وطورها آباء الكنيسة، لا سيما في التقليد اليوناني.
يُعدّ القديس غريغوريوس النيصي من بين هؤلاء الذين يرون أن الشفاء الروحي هو طريق للتطهير الذي يقود الإنسان إلى مشابهته التامة بالإله. بالنسبة له، خُلق الإنسان على صورة الإله، ولكن هذه الصورة تشوّهت بالخطيئة. لذا، تتمثل رسالة المسيح في استعادة هذه الصورة، وتطهير الإنسان من شهواته، ورفعه إلى كماله النهائي: التألّه. هذه العملية ليست تحوّلًا فوريًا، بل هي مسيرة شفاء حقيقية، حيث يُدعى الإنسان للتعاون مع النعمة الإلهية من أجل استعادة تكامله.
يتميّز كتاب مارك متري بطريقته في تجديد هذه الرؤية الآبائية. لا يقتصر على التحليل التاريخي، بل يركّز أيضًا على أهمية هذا النهج في عصرنا الحالي. ففي عالم يكثر فيه الألم النفسي والروحي، يقدّم اللاهوت العلاجي مفاتيح لفهم أعمق. فالنظر إلى الخلاص كعملية علاجية يسلّط الضوء على دور الإيمان في التحوّل الداخلي. ولا يقتصر الشفاء على الفرد فقط، بل يشمل الإنسانية جمعاء المدعوّة إلى الاستعادة الكاملة في علاقتها بالإله.
ما يجعل هذا العمل فريدًا هو منهجه متعدد التخصصات. فمارك متري، الذي يجمع بين اللاهوت والاقتصاد والرياضيات، يستخدم مهاراته التحليلية لتقديم قراءة جديدة لفكر غريغوريوس النيصي. يمزج كتابه بين اللاهوت والعلوم الإنسانية والطبية، مبرزًا كيف تؤثر الجراح الداخلية والقلق والتوتر على الإنسان، وكيف يمكن للشفاء الروحي أن يكون جزءًا من عملية استعادة الإنسان بالكامل. وبذلك، يتقاطع هذا الطرح مع الأبحاث الحديثة حول الصحة الشاملة، التي لا تفصل بين الجسد والروح، بل تنظر إلى الإنسان كوحدة متكاملة.
يأتي إصدار هذا الكتاب في وقت مناسب خلال زمن الصوم الكبير، وهو فترة مثالية للتأمل في الشفاء الداخلي واستعادة الإنسان. في التقليد المسيحي، لا يُنظر إلى الصوم على أنه مجرد حرمان، بل هو فرصة حقيقية لاكتشاف الحياة الإلهية فينا. إنها مسيرة توبة تهدف إلى التحرر مما يعيق علاقتنا بالإله والآخرين. فالصلاة والصوم والصدقة ليست مجرد ممارسات زهدية، بل أدوات حقيقية للتحوّل الداخلي. فمن خلال الصلاة، نعترف بحاجتنا إلى الشفاء ونفتح قلوبنا لعمل الإله. والصوم ليس فقط تمرينًا على ضبط النفس، بل هو وسيلة لتنقية القلب وإعادة توجيه رغباتنا نحو الجوهر. أما الصدقة، فتذكّرنا بأن الشفاء لا يقتصر على الفرد، بل يشمل أيضًا علاقاتنا بالآخرين والتزامنا بالمحبة.
في هذا السياق، يشكّل كتاب المسيح الطبيب مصدرًا قيمًا لفهم أعمق لمعنى الصوم الكبير، وديناميكية الشفاء التي نحن مدعوون إليها. فهو ليس مجرد قراءة نظرية، بل هو دعوة إلى تأمل حقيقي في الخلاص باعتباره استعادةً للإنسان الجريح. يوضح هذا الكتاب كيف يمكن للرؤية الآبائية أن تنير فهمنا للخلاص وتساعدنا على الدخول في مسيرة توبة حقيقية.
أما مقدمة البروفسورة ماري-آن فاننييه، فهي تضيف بُعدًا أساسيًا لهذا العمل، إذ تضع فكر مارك متري في إطار التقليد اللاهوتي والروحي العظيم. باعتبارها متخصصة في الفكر الآبائي والوسيط، تبرز غنى مفهوم التألّه، وتشدّد على أهميته لفهم متجدد للمسيحية اليوم. وتؤكد أن اللاهوت الآبائي ليس مجرد تاريخ للأفكار، بل يمتلك قوة معاصرة يمكنها أن تغذي إيماننا اليوم. يقدم فكر غريغوريوس النيصي، بشكل خاص، رؤى مدهشة حول دعوة الإنسان إلى المشاركة في الحياة الإلهية والانفتاح على شفاء المسيح.
ومن خلال تسليط الضوء على راهنية هذه الرؤية الخلاصية، تبرز ماري-آن فاننييه الحاجة إلى إعادة اكتشاف آباء الكنيسة في المسيحية المعاصرة. فكثيرًا ما تفصل الروحانية الحديثة بين الإيمان والتجربة الإنسانية، بينما يُظهر التقليد الآبائي أن المسيرة الروحية متجذرة في تحول حقيقي للإنسان. وهذا الشفاء لا يخص الروح فقط، بل يشمل الجسد، والعلاقات مع الآخرين، والطريقة التي نتفاعل بها مع العالم.
عبر قراءة دقيقة لفكر غريغوريوس النيصي، يُعيد مارك متري طرح رؤية للخلاص لا تزال جوهرية في عصرنا. فاستعارة "المسيح الطبيب" تذكّرنا بأن الإيمان المسيحي هو أولًا دعوة إلى الشفاء، واستعادة صورة الإله في الإنسان. وهذا الشفاء يتم عبر تحوّل داخلي لا يقتصر على الأخلاق، بل يشمل مشاركة فعلية في حياة الإله. فبعيدًا عن كونه رؤية ثابتة للخلاص، يعكس هذا النهج مسيرة ديناميكية يُدعى كل فرد فيها إلى النمو والتطهر والانفتاح المتزايد على النور الإلهي.
وبفضل مقدمة البروفسورة ماري-آن فاننييه، التي تضع هذا العمل في سياق التراث اللاهوتي والروحي العظيم، يشكّل هذا الكتاب قراءة لا غنى عنها لمن يرغب في التعمّق في غنى الرسالة المسيحية. فهو دعوة إلى إعادة اكتشاف البُعد العلاجي للإيمان، والانخراط في مسيرة توبة حيث يُكشف لنا المسيح ليس فقط كمخلّص، بل أيضًا كطبيب للروح والجسد.
📖 اكتشف المسيح الطبيب على موقع Domuni-Press:
🔗 https://www.domuni.eu/press/fr/livre/le-christ-medecin/